فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فَلَمَّا أتاها} أي النارَ التي آنسها، قال ابن عباس رضي الله عنهما: رأى شجرةً خضراءَ أطافت بها من أسفلها إلى أعلاها نارٌ بيضاءُ تتقدُ كأضْوإ ما يكون، فوقف متعجبًا من شدة ضوئها وشدةِ خُضرة الشجرة فلا النارُ تُغيّر خضرتها ولا كَثرةُ ماء الشجرة تُغيّر ضوءَها. قالوا: النارُ أربعةُ أصنافٍ: صنفٌ يأكل ولا يشرب وهي نارُ الدنيا، وصنفٌ يشرب ولا يأكل وهي نارُ الشجرِ الأخضر، وصنفٌ يأكل ويشرب وهي نار جهنم، وصنفٌ لا يأكل ولا يشرب وهي نارُ موسى عليه الصلاة والسلام، وقالوا: هي أربعةُ أنواعٍ: نوعٌ له نورٌ وإحراقٌ وهي نارُ الدنيا، ونوع لا نورَ له ولا إحراقَ وهي نارُ الأشجار، ونوعٌ له نورٌ بلا إحراقٍ وهي نارُ موسى عليه الصلاة والسلام، ونوعٌ له إحراقٌ بلا نور وهي نارُ جهنم. روي أن الشجرة كانت عَوْسَجةً، وقيل: كانت سَمُرة {نُودِىَ ياموسى} أي نودي فقيل: يا موسى {إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ} أو عومل النداءُ معاملةَ القول لكونه ضربًا منه، وقرئ بالفتح أي بأني، وتكريرُ الضمير لتأكيد الدليلِ وتحقيقِ المعرفة وإماطةِ الشبهة. روي أنه لما نودي يا موسى، قال عليه الصلاة والسلام: من المتكلم؟ فقال الله عز وجل: {أنا ربك} فوسوس إليه إبليسُ: لعلك تسمع كلامَ شيطان، فقال: أنا عرفتُ أنه كلامُ الله تعالى بأني أسمعه من جميع الجهاتِ بجميع الأعضاء. قلت: وذلك لأن سماعَ ما ليس من شأنه ذلك من الأعضاء ليس إلا من آثار الخلاق العليم تعالى وتقدس، وقيل: تلقّى عليه الصلاة والسلام كلامَ رب العزة تلقيًا روحانيًا ثم تمثل ذلك الكلامُ لبدنه وانتقل إلى الحس المشترك فانتقش به من غير اختصاص بعضو وجهه {فاخلع نَعْلَيْكَ} أُمر عليه الصلاة والسلام بذلك لأن الحفْوةَ أدخلُ في التواضع وحسنِ الأدب، ولذلك كان السلفُ الصالحون يطوفون بالكعبة حافين، وقيل: ليباشر الواديَ بقدميه تبركًا به، وقيل: لما أن نعليه كانتا من جلد حمارٍ غيرِ مدبوغ، وقيل: معناه فرِّغْ قلبَك من الأهل والمال، والفاء لترتيب الأمر على ما قبلها فإن ربوبيته تعالى له عليه الصلاة والسلام من موجبات الأمر وداوعيه وقوله تعالى: {إِنَّكَ بالواد المقدس} تعليلٌ لوجوب الخَلْع المأمور به وبيانٌ لسبب ورودِ الأمر بذلك من شرف البُقعة وقُدْسِها، روي أنه عليه الصلاة والسلام خلعهما وألقاهما وراء الوادي {طُوًى} بضم الطاء غيرُ منوّن، وقرئ منونًا، وقرئ بالكسر منونًا وغيرَ منّون، فمَنْ نوّنه أوّله بالمكان دون البقعة، وقيل: هو كثني الطي مصدرٌ لنوديَ أو المقدس أي نودي نداءين أو قُدّس مرة بعد أخرى.
{وَأَنَا اخترتك} أي اصطفيتك للنبوة والرسالة، وقرئ وأنّا اخترناك بالفتح والكسر، والفاء في قوله: {فاستمع} لترتيب الأمرِ أو المأمورِ به على ما قبلها، فإن اختيارَه عليه السلام لما ذكر من موجبات الاستماع والأمرِ به، واللام في قوله تعالى: {لِمَا يُوحَى} متعلقةٌ باستمعْ وما موصولةٌ أو مصدريةٌ، أي فاستمع الذي يوحى إليك أو الوحْيَ لا باخترتك كما قيل، لكن لا لما قيل من أنه من باب التنازُعِ وإعمالِ الأول فلابد حينئذ من إعادة الضميرِ مع الثاني بل لأن قوله تعالى: {إِنَّنِى أَنَا الله لا إله إِلا أَنَاْ} بدلٌ من {ما يوحى} ولا ريب في أن اختيارَه عليه الصلاة والسلام ليس لهذا الوحي فقط، والفاءُ في قوله تعالى: {فاعبدنى} لترتيب المأمورِ به على ما قبلها فإن اختصاصَ الألوهية به سبحانه وتعالى من موجبات تخصيصِ العبادةِ به عز وجل: {اتل مَا} خُصت الصلاةُ بالذكر وأُفردت بالأمر مع اندراجها في الأمر بالعبادة لفضلها وإنافتِها على سائر العبادات بما نيطت به من ذكر المعبودِ وشُغل القلبِ واللسانِ بذكره، وذلك قوله تعالى: {لِذِكْرِى} أي لتذكُرني فإن ذِكْري كما ينبغي لا يتحقق إلا في ضمن العبادةِ والصلاة، أو لتذكُرني فيها لاشتمالها على الأذكار، أو لذكري خاصةً لا تشوبُه بذكر غيري، أو لإخلاص ذكري وابتغاءِ وجهي لا تُرائي بها ولا تقصِدُ بها غرضًا آخرَ، أو لتكون ذاكرًا لي غيرَ ناس، وقيل: لذكري إياها وأمْري بها في الكتب، أو لأنْ أذكُرَك بالمدح والثناء، وقيل: لأوقات ذكري وهي مواقيتُ الصلاة، أو لذِكْر صلاتي لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «من نام عن صلاة أو نسِيَها فليصلِّها إذا ذكرها لأن الله تعالى يقول: {إِنَّنِى أَنَا الله}». وقرىء: {لذكرى} بألف التأنيثِ وللذكرى معرفًا وللذكْر بالتعريف والتنكير. اهـ.

.قال الألوسي:

وقوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى}.
مسوق لتقرير أمر التوحيد الذي انتهى إليه مساق الحديث وبيان أنه أمر مستمر فيما بين الأنبياء عليهم السلام كابرًا عن كابر وقد خوطب به موسى عليه السلام حيث قيل له {إِنَّنِى أَنَا الله لا إله إِلا أَنَاْ} [طه: 14] وبه ختم عليه السلام مقاله حيث قال: {إِنَّمَا إلهكم الله الذى لا إله إِلاَّ هُو} [طه: 98] وقيل: مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان لتشقى} [طه: 2] بناء على ما نقل عن مقاتل في سبب النزول إلا أن الأول تسلية له عليه الصلاة والسلام برد ما قاله قومه وهذا تسلية له صلى الله عليه وسلم برد ما قاله قومه وهذا تسلية له صلى الله عليه وسلم بأن إخوانه من الأنبياء عليهم السلام قد عراهم من أممهم ما عراهم وكانت العاقبة لهم وذكر مبدأ نبوة موسى عليه السلام نظير ما ذكر إنزال القرآن عليه عليه الصلاة والسلام.
وقيل: مسوق لترغبب النبي صلى الله عليه وسلم في الائتساء بموسى عليه السلام في تحمل أعباء النبوة والصبر على مقاساة الخطوب في تبليغ أحكام الرسالة بعد ما خاطبه سبحانه بأنه كلفه التبليغ الشاق بناء على أن معنى قوله تعالى: {مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان لتشقى إِلاَّ تَذْكِرَةً لّمَن يخشى} [طه: 2، 3] إنا أنزلنا عليك القرآن لتحتمل متاعب التبليغ ومقاولة العتاة من أعداء الإسلام ومقاتلتهم وغير ذلك من أنواع المشاق وتكاليف النبوة وما أنزلنا عليك هذا المتعب الشاق إلا ليكون تذكرة فالواو كما قاله غير واحد لعطف القصة على القصة ولا نظر في ذلك إلى تناسبهما خبرًا وطلبًا بل يشترط التناسب فيما سيقتاله مع أن المعطوف هاهنا قد يؤول بالخبر.
ولا يخفى أن ما تقدم جار على سائر الأوجه والأقوال في الآية السابقة، وسبب نزولها ولا يأباه شيء من ذلك، والاستفهام تقريري، وقيل: هل بمعنى قد؛ وقيل: الاستفهام إنكاري ومعناه النفي أي ما أخبرناك قبل هذه السورة بقصة موسى عليه السلام ونحن الآن مخبروك بها والمعول عليه الأول، والحديث الخبر ويصدق على القليل والكثير ويجمع على أحاديث على غير قياس.
قال الفراء: نرى أن واحد الأحاديث أحدوثة ثم جعلوه جمعًا للحديث، وقال الراغب: الحديث كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في يقظته أو منامه ويكون مصدرًا بمعنى التكلم.
وحمله بعضهم على هذا هنا بقرية {فَقَالَ} [طه: 10].. إلخ، وعلق به قوله تعالى: {إِذْ رَءا نَارًا} ولم يجوز تعلقه على تقدير كونه اسمًا للكلام والخبر لأنه حينئذ الجوامد لا يعمل، والأظهر أنه اسم لما ذكر لأنه هو المعروف مع أن وصف القصة بالاتيان أولى من وصف التحدث والتكلم به وأمر التعلق سهل فإن الظرف يكفي لتعلقه رائحة الفعل، ولذا نقل عن بعضهم أن القصة والحديث والخبر والنبأ يجوز أعمالها في الظروف خاصة وإن لم يرد بها المعنى المصدري لتضمن معناها الحصول والكون.
وجوز أن يكون ظرفًا لمضمر مؤخر أي حين رأى نارًا كان كيت وكيت، وأن يكون مفعولًا لمضمر متقدم أي فاذكر وقت رؤيته نارًا.
وروى أن موسى عليه السلام استأذن شعيبًا عليه السلام في الخروج من مدين إلى مصر لزيارة أمه وأخيه وقد طالت مدة جنايته بمصر ورجا خفاء أمره فأذن له وكان عليه السلام رجلًا غيورًا فخرج بأهله ولم يصحب رفقة لئلا ترى امرأته وكانت على أتان وعلى ظاهرها جوالق فيها أثاث البيت ومعه غنم له وأخذ عليه السلام على غير الطريق مخافة من ملوك الشام فلما وافى وادي طوى وهو بالجانب الغربي من الطور ولد له ابن في ليلة مظلمة شاتية مثلجة وكانت ليلة الجمعة وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته ولا ماء عنده وقدح فصله زنده فبينما هو كذلك إذ رأى نارًا على يسار الطريق من جانب الطور {فَقَالَ لاِهْلِهِ امكثوا} أي أقيموا مكانكم أمرهم عليه السلام بذلك لئلا يتبعوه فيما عزم عليه من الذهاب إلى النار كما هو المعتاد لا لئلا ينتقلوا إلى موضع آخر فإنه مما لا يخطر بالبال، والخطاب قيل: للمرأة والولد والخادم، وقيل: للمرأة وحدها والجمع إما لظاهر لفظ الأهل أو للتفخيم كما في قوله من قال:
وإن شئت حرمت النساء سواكم

وقرأ الأعمش، وطلحة، وحمزة، ونافع في رواية {لاِهْلِهِ امكثوا} بضم الهاء {إِنّى ءانَسْتُ نَارًا} أي أبصرتها إبصارًا بينًا لا شبهة فيه، ومن ذلك إنسان العين والإنس خلاف الجن، وقيل: الإيناس خاص بإبصار ما يؤنس به، وقيل: هو بمعنى الوجدان، قال الحارث بن حلزة:
آنست نبأة وقد راعها القن ** اص يومًا وقد دنا الإمساء

والجملة تعليل للأمر والمأمور به ولما كان الإيناس مقطوعًا متيقنًا حققه لهم بكلمة إن ليوطن أنفسهم وإن لم يكن ثمت تردد أو إنكار {لَّعَلّى ءاتِيكُمْ مّنْهَا} أي أجيئكم من النار {بِقَبَسٍ} بشعلة مقتبسة تكون على رأس عود ونحوه ففعل بمعنى مفعول وهو المراد بالشهاب القبس وبالجذوة في موضع آخر وتفسيره بالجمرة ليس بشيء، وهذا الجار والمجرور متعلق بآتيكم، وأما منها فيحتمل أن يكون متعلقًا به وأن يكون متعلقًا بمحذوف وقع حالًا من {قَبَسٍ} على ما قاله أبو البقاء {أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى} هاديًا يدلني على الطريق على أنه مصدر سمي به الفاعل مبالغة أو حذف منه المضاف أي ذا هداية أو على أنه إذا وجد الهادي فقد وجد الهدي، وعن الزجاج أن المراد هاديًا يدلني على الماء فإنه عليه السلام قد ضل عن الماء، وعن مجاهد وقتادة أن المراد هاديًا يهديني إلى أبواب الدين فإن أفكار الأبرار مغمورة بالهمم الدينية في عامة أحوالهم لا يشغلهم عنها شاغل وهو بعيد فإن مساق النظم الكريم تسلية أهله مع أنه قد نص في سورة القصص على ما يقتضي ما تقدم حيث قال: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الاجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ} الآية، والمشهور كتابة هذه الكلمة بالياء.
وقال أبو البقاء: الجيد أن تكتب بالألف ولا تمال لأن الألف بدل التنوين في القول المحقق، وقد أمالها قوم وفيه ثلاثة أوجه، الأول: أن يكون شبه ألف التنوين بلام الكلمة إذا اللفظ بهما في المقصور واحد، الثاني: أن يكون لام الكلمة ولم يبدل من التنوين شيء في النصب، والثالث: أن يكون على رأي من وقف في الأحوال الثلاثة من غير إبدال انتهى، وكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع وعلي على بابها من الاستعلاء والاستعلاء على الناء مجاز مشهور صار حقيقة عرفية في الاستعلاء على مكان قريب ملاصق لها كما قال سيبويه في مررت بزيد: إنه لصوق بمكان يقرب منه، وقال غير واحد: إن الجار والمجرور في موضع الحال من {هُدِىَ} وكان في موضع الفة له فقدم والتقدير أو أجد هاديًا أو ذا هدى مشرفًا على النار، والمراد مصطليًا بها وعادة المصطلي الدنو من النار والإشراف عليها.
وعن ابن الانباري أن علي هاهنا بمعنى عند أو بمعنى مع أو بمعنى الباء ولا حاجة إلى ذلك وكان الظاهر عليها إلا أنه جيء بالظاهر تصريحًا بما هو كالعلة لوجدان الهدي إذ النار لا تخلو من أناس عندها، وصدرت الجملة بكلمة الترجي لما أن الإتيان وماعطف عليه ليسا محققي الوقوع بل هما مترقبان متوقعان.
وهي على ما في إرشاد العقل السليم إما علة لفعل قد حذف ثقة بما يدل عليه من الأمر بالمكث والإخبار بإيناس النار وتفاديًا عن التصريح بما يوحشهم، وإما حال من فاعله أي فاذهب إليها لآتيكم أو كي آتيكم أو راجيًا أن آتيكم منها بقبس الآية، وقيل: هي صفة لنارًا، ومتى جاز جعل جملة الترجي صلة كما في قوله:
وإني لراج نظرة قبل التي ** لعلي وإن شطت نواها أزورها

فليجز جعلها صفة فإن الصلة والصفة متقاربان ولا يخفى ما فيه.
{فَلَمَّا أتاها} أي النار التي آنسها وكانت كما في بعض الروايات عن ابن عباس في شجرة عناب خضراء يانعة، وقال عبد الله بن مسعود: كانت في سمرة، وقيل: في شجرة عوسج.
وأخرج الإمام أحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه قال: لما رأى موسى عليه السلام النار انطلق يسير حتى وقف منها قريبًا فإذا هو بنار عظيمة تفور من ورق شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها العليق لا تزداد النار فيما يرى إلا عظمًا وتضرمًا ولا تزداد الشجرة على شدة الحريق إلا خضرة وحسنًا فوقف ينظر لا يدري علام يضع أمرها إلا أنه قد ظن أنها شجرة تحترق وأوقد إليها بوقد فنالها فاحترقت وأنه إنما يمنع النار شدة خضرتها وكثرة مائها وكثافة ورقها وعظم جذعها فوضع أمرها على هذا فوقف وهو يطمع أن يسقط منها شيء فيقتبسه فلما طال عليه ذلك أهوى إليها بضغث في يده وهو يريد أن يقتبس من لهبها فلما فعل ذلك مالت نحوه كأنها تريده فاستأخر عنها وهاب ثم عاد فطاف بها ولم تزل تطمعه ويطمع بها ثم لم يكن شيء باوشك من خمودها فاشتد عند ذلك عجبه وفكر في أمرها فقال: هي نار ممتنعة لا يقتبس منها ولكنها تتضرم في جوف شجرة فلا تحرقها ثم خمودها على قدر عظمها في أوشك من طرفة عين فلما رأى ذلك قال إن لهذه لشأنا ثم وضع أمرها على أنها مأمورة أو مصنوعة لا يدري من أمرها ولا بم أمرت ولا من صنعها ولا لم صنعت فوقف متحيرًا لا يدري أيرجع أم يقيم فبينما هو على ذلك إذ رمى بطرفة هو فرعها فإذا أشد ما كان خضرة ساطعة في السماء ينظر إليها تغشى الظلام ثم لم تزل الخضرة تنور وتصفر وتبيض حتى صارت نورًا ساطعًا عمودًا بين السماء والأرض عليه مثل شعاع الشمس تكل دونه الأبصار كلما نظر إليه يكاد يخطف بصره فعند ذلك اشتد خوفه وحزنه فرد يده على عينيه ولصق بالأرض وسمع حينئذ شيئًا لم يسمع السامعون بمثله عظمًا فلما بلغ موسى عليه السلام الكرب واشتد عليه الهول كان ما قص الله تعالى.
وروى أنه عليه السلام كان كلما قرب منها تباعدت فإذا أدبرا تبعته فأيقن أن هذا أمر من أمور الله تعالى الخارقة للعادة ووقف متحيرًا وسمع من السماء تسبيح الملائكة وألقيت عليه السكينة وكان ما كان.
وقالوا: النار أربعة أصناف صنف يأكل ولا يشرب وهي نار الدنيا، وصنف يشرب ولا يأكل وهي نار الشجر الأخضر، وصنف يأكل ويشرب وهي نار جهنم، وصنف لا يأكل ولا يشرب وهي نار موسى عليه السلام.
وقالوا أيضًا هي أربعة أنواع:
نوع له نور وإحراق وهي نار الدنيا، ونوع لا نور له ولا إحراق وهي نار الأشجار ونوع له إحراق بلا نور وهي نار جهنم.
ونوع له نور بلا إحراق وهي نار موسى عليه السلام بل قال بعضهم: إنها لم تكن نارًا بل هي نور من نور الرب تبارك وتعالى.
وروى هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وذكر ذلك بلفظ النار بناء على حسبان موسى عليه السلام وليس في إخباره عليه السلام حسب حسبانه محذور كما توهم واستظهر ذلك أبو حيان وإليه ذهب الماوردي.
وقال سعيد بن جبير: هي النار بعينها وهي إحدى حجب الله عز وجل واستدل له بما روى عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» ذكر ذلك البغوي وذكر في تفسير الخازن أن الحديث أخرجه مسلم وظاهر الآية يدل على أنه عليه السلام حين أتاها {نُودِىَ} من غير ريث وبذلك رد بعض المعتزلة الأخبار السابقة الدالة على تخلل زمان بين المجيء والنداء، وأنت تعلم أن تخلل مثل ذلك الزمان مما لا يضر في مثله ما ذكر، وزعم أيضًا امتناع تحقق ظهور الخارق عند مجيئه النار قبل أن ينبأ إلا أن يكون ذلك معجزة لغيره من الأنبياء عليهم السلام، وعندنا أن ذلك من الإرهاص الذي ينكره المعتزلة، والظاهر أن القائم مقام فاعل {نُودِىَ} ضمير موسى عليه السلام، وقيل: ضمير المصدر أي نودي النداء، وقيل: هو قوله تعالى: {حَدِيثُ موسى}.. إلخ. وكأن ذلك على اعتبار تضمين النداء معنى القول وإرادة هذا اللفظ من الجملة وإلا فقد قيل: إن الجملة لا تكون فاعلًا ولا قائمًا مقامه في مثل هذا التركيب إلا بنحو هذا الضرب من التأويل.
وفي البحر مذهب الكوفيين معاملة النداء معاملة القول ومذهب البصريين إضمار القول في مثل هذه الآية أي نودي فقيل: {حَدِيثُ موسى}.